الحقيقة القانونية لجريمة التسميم
من المعلوم أن " الفقه الجنائي " تعامل معالجرائم من جوانب مختلفة منها ما هو مرتبط بأركان الجرائم و منها ما هو مرتبطبعلاقة الجرائم بعضها ببعض و منها غير ذلك ، و في كل الأحوال فإن الفقه و هو بصدددراسة الجرائم التي نص عليها المشرع يضع نصب عينيه القواعد العامة التي تؤطر الجريمة على وجه العموم .
و في هذا الصدد ؛ فإن النظر في الجرائم على الوجه المنهجيالخالص ، يقتضي اتباع المنهجية القانونية الصرفة التي تفضي إلى إيجاد نتائج حقيقيةو متناغمة مع التوجه التشريعي الذي سار عليه المشرع . و لن يتأتى ذلك إلا إذا تمالانطلاق من النص التشريعي ذاته ، بدل الانطلاق من غيره ، إذ أن القاعدة الجنائيةتعتبر قاعدة سيادية ، أي أنها تجسد إحدى صور الممارسة السيادية التي تلجأ لهاالدول ، و تستعمل في سبيل ذلك مختلف القواعد المنهجية المستندة على المبادئ العامةالتي تقوم عليها نظرية الجريمة ، حتى إذا ما ارتأى نظر المشرع الخروج عن تلكالقواعد سن لذلك جرائم مستقلة و تم اعتبارها جرائم مستقلة بدل التعامل معها علىأساس ما تقتضيه المبادئ العامة للجريمة .
و من الجرائم التي يمكن إثارة الانتباه إلى انعدام تأسيسالراي الفقهي لها ، جريمة التسميم ، إذ أن الآراء الفقهية التي تناولت بالدرس والتحليل الجوانب القانونية لهذه الجريمة تطرح أكثر من سؤال ؛ على اعتبار أنها تلكالتحليلات تفضي إلى نتيجة غير ما أراده المشرع من إفراد جريمة التسميم بنص خاص . وهكذا فإن الاستمرار في التسليم بالرأي الفقهي بخصوص التفسير القانوني لجريمةالتسميم يجعل مجموعة من الأفعال المجرمة تخرج عن دائرة التعامل " الشرعي" معها ، إذ أن تعامل الفقه أو القضاء سيتسمان بالقطع بخرق قواعد الشرعيةالتي هي أساس القانون الجنائي نظرا لارتباطها بحقوق الأفراد .
و في هذا السياق وجب علينا طرح التساؤل التالي : إلى أيحد كان الفقه موفقا في تعامله مع الأحكام العامة لجريمة التسميم ؟
إن الجواب عن هذا التساؤل ينطلق من فرضية أن الفقه يعتبرحقيقة جريمة التسميم أنها صورة من صور القتل ، ويبني الأحكام القانونية لها علىهذا الأساس مما يشكل نوعا من الاضطراب عند صياغة مقاربة قانونية للجريمة موضوعالحديث.
و لبسط وجهة النظر المخالفة لما سار عليه التوجه الفقهي، و ما تأثر به العمل القضائي ، يتعين اتباع المنهجية التالية :
المبحث الأول : الرأي الفقهي حول الطبيعة القانونيةلجريمة التسميم
المبحث الثاني : تقديرالرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم
المبحث الأول
الرأي الفقهي حول الطبيعة القانونية لجريمةالتسميم
إن الدراسات الفقهية التي تناولت جريمة التسميم ، اعتبرتالجريمة المذكورة أنها جريمة شكلية، و قد انطلق في نظرها من الصيغة التي صاغ بهاالمشرع مقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي .
فالمشرع كما هو معلوم نص في الفصل 398 من القانونالجنائي على أنه : " من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسببالموت عاجلا أو آجلا أيا كانت الطريقة التي استعملت أو أعطيت بها تلك المواد وأياكانت النتيجة، يعد مرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام "
و انطلاقا من هذه المقتضيات اعتبر الفقه أن جريمةالتسميم جريمة شكلية تقوم على أساس مجرد مناولة الضحية للمادة السامة و لو لم تحدثتلك المناولة أية وفاة ، معتبرا أن تنصيص المشرع على عبارة " من شأنها أنتسبب الموت عاجلا أو آجلا" إشارة إلى كون جريمة التسميم جريمة لا يشترط فيهاالمشرع حدوث النتيجة الإجرامية التي هي الوفاة .
و قد قال بهذا الرأي كل الفقه ، إذ أن الموقف الفقهيبشأن جريمة التسميم يمكن اعتباره رأيا مجمعا عليه ، و هو ما يفسر التسليم بهذهالرأي من قبل الخلف الذي يسيرون على نهج السلف ، حتى أن الطبيعة القانونية لجريمةالتسميم أصبحت من المسلمات بكونها جريمة شكلية ، الشيء الذي يثير أكثر من تساؤلحول ما إذا كانت بالفعل تلك القراءة الفقهية مستندة على أساس قانوني أم لا ؟
إن تقدير العمل الرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم يجب أنيستند على رأي التشريعات التي خالفت الموقف التشريعي المغربي ؛ إذ أنه بالرجوعمثلا لموقف المشرع المصري نجده ينص في المادة 233 من قانون العقوبات المصري علىأنه: " من قتل أحداً عمداً بجواهر يتسبب عنها الموت عاجلاً أو أجلاً يعدقاتلاً بالسم أيا كانت كيفية استعمال تلك الجواهر ويعاقب بالإعدام " . و كماهو ملاحظ فإن موقف المشرع المصري سار في اتجاه اعتبار القتل يمكن أن يتحقق بمجموعةمن الصور منها أن يتم عن طريق التسميم ، و يظهر ذلك من خلال حصر النتيجة الإجراميةالتي افترضها المشرع المصري في القتل بما هو إزهاق للروح ، سواء أتم ذلك الإزهاقعاجلا أم آجلا .
فالركن المادي لجريمة " القتل عن طريق التسميم" كما افترضه المشرع المصري يمكن في إعطاء المواد السامة للضحية بغرض القتل ،و هو بذلك لا يلقي بالا للطريقة التي أعطيت بها تلك المواد . و انطلاقا من ذلك فإنالمشرع المصري عمد إلى جعل القتل عن طريق التسميم صورة من صور القتل ، إذ أنالقاعدة القانونية التي تجرم القتل في التشريع المصري جاءت عامة و مجردة لم يعتبرفيها ذات المشرع إلى النتيجة الإجرامية ألا و هو إزهاق الروح ، و هي المادة 230التي تنص على أنه : " كل من قتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار على ذلك أوالترصد يعاقب بالإعدام " ، لكن الضرورة دعت المشرع المصري إلى التدخلتشريعيا بموجب المادة 233 المذكورة أعلاه من أجل التنصيص صراحة على جريمة "القتل عن طريق التسميم " ، مما يجعلهذه الأخيرة مجرد صورة من صور القتل و ليست جريمة مستقلة عنها .
و نفس الموقف الذي سار عليه المشرع المصري ، انتهجهالمشرع الفرنسي الذي نص في الفصل 5-221 من القانون الجنائي الفرنسي على أنه :" الفعل الذي من شأنه الاعتداء على حياة الغير باستعمال مادة من شأنها إحداثالوفاة يعتبر تسميما " [1]
إذ أن الملاحظ من الموقف التشريعي الفرنسي أنه حصر بدورهالنتيجة الإجرامية في جريمة التسميم في إحداث الموت للغير . و هوما يجعل الموقفينالمصري و الفرنسي يتفقان في اعتبار جريمة التسميم جريمة ذات نتيجة إلا أنها غيرمستقلة بذاتها و لكن تعتبر صورة من صور جريمة القتل . فهل سار المشرع المغربي فينفس اتجاه المشرعين المصري و الفرنسي أم أنه خط لنفس طريقا مغايرا لذلك ؟
بالرجوع لمقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي ، نجدهينص على أنه : " من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أو آجلاأيا كانت الطريقة التي استعملت أو أعطيت بها تلك المواد وأيا كانت النتيجة، يعدمرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام " ، و هوالمقتضى الذي يفيد أن المشرع المغربي لم يتعامل مع جريمة التسميم باعتبارها صورةمن صور جريمة القتل، و إنما اعتبرها جريمة مستقلة بذاتها ، و ما يجعلنا نذهب في هذا الاتجاه هو أن المشرع لميفترض النتيجة المرجوة من التسميم منحصرة في القتل فقط و إنما جعلها تمتد إلى كلنتيجة من شأنها أن تنتج عن استعمال المواد السامة . و لعل العبارة التي أوردهاالمشرع في ذات الفصل و التي تنص على أنه : " وأيا كانت النتيجة " تعتبردليلا تشريعيا على كون المشرع لم يتعامل مع جريمة التسميم كما تعامل معها المشرعانالمصري و الفرنسي .
إنهذا الاختلاف في التوجهين التشريعيين المغربي من جهة و المصري و الفرنسي من جهةثانية ، يبدو أنه يشكل أساس التوجه الفقهي المغربي في اعتبار جريمة التسميم جريمةشكلية .
فالفقهالمغربي لما تطرق للحكم المستفاد من النص القانوني ركز على عبارة: " من شأنها أن تسببالموت عاجلا أو آجلا " و اعتبر ذلك بمثابة إهمال لأهمية النتيجة التييمكن أن تترتب عن استعمال وسائل سامة ومناولتها للغير ، و هو ما يمكن أن يجعلجريمة التسميم - وفق هذا المنطق– جريمة شكلية . على اعتبار أن الجريمة الشكلية هيالجريمة التي لا يتطلب فيها المشرع حدوث نتيجة مادية كعنصر في ركنها المادي بحيثتقع تامة بمجرد إتبان السلوك الإجرامي ؛ و أنه أن تعطى المواد التي من شأنها أنتحدث الموت عاجلا أو آجلا فإن الجريمة تكون قد تمت و اكتملت .
ولعل اعتبار الفقه الجنائي جريمة التسميممن الجرائم الشكلية لا يحتاج إلى دليل لدرجة أن الرأي مستقر على ذلك ، و هكذا فقدذهب الأستاذ الخمليشي إلى أن " جريمة التسميم في القانون المغربي جريمة شكليةلا تتحقق إلا بالقيام بالسلوك المعاقب عليه وفق النموذج المحدد في القانون ، و نموذج السلوك المحدد لجريمة التسميم هواستعمل أو إعطاء مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أو آجلا ، فإذا كانت المواد لاتتوفر على هذه الصفة لم يتحقق نموذج السلوك المعاقب عليه " [2] .
ولعل ما ذهب إليه الأستاذ الخمليشي ، هو ما سار عليه باقي الباحثين ، إذ اعتبرمجموعة منهم أن جريمة التسميم جريمة شكلية ، ومنهم الأستاذ عبد الواحد العلمي الذيذهب إلى أن " جريمة التسميم من جرائم الخطر ، و ليست من جرائم النتيجة ، بحيثلا يشترط لقيامهما أن تموت الضحية بفعل السم ، و إنما يتحقق ركنها المادي باستعمالأو إعطاء مادة سامة لشخص من الأشخاص و يكون من شأنها حسب الفصل 398 ق ج أن تتسببفي الموت عاجلا أم آجلا " [3] . و نفس الرأي هو ما أخذ بهكل من الأستاذ مبارك السعيد بن القائد الذي اعتبر أن "التسميم جريمة شكلية لا يشترط فيها حدوث النتيجةالإجرامية ، أي أنها تتم بمجرد دس السم للضحية ،و لو لم تحدث الوفاة " [4] و غيرهم من الباحثين كثرذهبوا في هذا الاتجاه .
وعموم القول في هذا السياق أن الباحثين في الفقه الجنائي استندوا على قراءة تجزيئيةللفصل 398 من القانون الجنائي إذ اعتبروا فقط الجزء الذي ينص على إحداث الموتعاجلا أو آجلا ، و قرأوه قراءة تبدو مجانبة لقصد المشرع من إيراد حكم خاص بجريمةالتسميم و يجعل الباحث يجد نفسه مضطرالتقييم هذا التوجه لما لذلك من آثار قانونية يمكن أن تترتب على مجموعة منالمستويات ، و هو ما سوف نتولى التطرق إليه في المطلب الموالي .
المبحث الثاني
تقدير الرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم
إناعتبار جريمة التسميم جريمة شكلية ، يعني أنه بمجرد إتيان الركن المادي للجريمةالمذكورة تصبح تامة ، و بصيغة أخرى فإن جريمة التسميم حسب هذا الرأي من الفقهتعتبر مكتملة متى تم تقديم السم للضحية من غير أن يحدث ذلك السم الأثر المتوخىمنه. و مما يلاحظ على هذا التوجه أنه استند فقط على كون جريمة التسميم جريمة مآلهاالقتل أو إزهاق روح الغير ، و بالتالي فإن مسايرة هذا القول في ما ذهب إليه يجعلنانسلم بأن جريمة التسميم ليست جريمة مستقلة و إنما صورة من صور جريمة القتل مادامأن الهدف هو إحداث الوفاة عاجلا أم آجلا .
وإذا ما تفحصنا هذا الرأي ، نجده مجانبا للصواب لمجموعة من الاعتبارات، منها ما هوقانوني و منها ما هو مرتبط بالفهم الخاص للقائلين به .
فمنحيث الاعتبار القانوني نجد أن هذا الرأي يستند إلى قراءة مضطربة لمقتضيات الفصل398 من القانون الجنائي ، و هي قراءة تعتبر أن النتيجة التي تنتج عن استعمالالمواد المذكورة بالفصل المذكور هي الموت عاجلا أم آجلا ، و هو رأي يخلط بينالنتيجة و آثار النتيجة .
فالقراءةالمتأنية للفصل المذكور تقيد أن المشرع لما جعل الحكم القانوني لجريمة التسميممستقلا عن حكم جريمة القتل ، قصد أن النتيجة المتحققة من كل جريمة على حدة مختلفةعن تلك المتحققة من الأخرى . ففي الوقت الذي اعتبر فيه المشرع القصد الخاص فيجريمة القتل هو إحداث إزهاق لروج المجني عليه ، فإنه في جريمة التسميم لم يقصد ذلك، وإنما قصد الاعتداء على حياة شخص بإعطائه مواد من شأنها أن تحدث الموت عاجلا أمآجلا أو أيا كانت النتيجة .
فإذاكان الباحثون في الفقه الجنائي يستندون على كون جريمة التسميم مآلها الموت ، فإنالتساؤل يبقى مشروعا حول ما دلالة اعتبار الموت من جريمة القتل عنه في جريمةالتسميم . ففي جريمة القتل تكون النتيجة الإجرامية هي القتل مباشرة، اما في جريمةالتسميم فإن النتيجة الإجرامية ليست هي القتل أو الموت العاجل أو الآجل ، و إنماهي إدخال السم في جسم المجني عليه ، ودليل هذا الرأي هو أن المشرع لم يقصر النتيجة المتوقعة من التسميم في القتل فقط كما فعل المشرع المصري أوالفرنسي ، و إنما جعلها تتعدى ذلك إلى صور متعددة غير الموت ، وهو ما يستفاد منالعبارة التي أوردها المشرع في ذات الفصل و التي نفادها : " وأيا كانت النتيجة " . فما المقصود بذلك ؟
إنالمشرع حسب رأينا ذهب إلى أن الاعتداء على الضحية في جريمة التسميم يتحقق بمجردإدخال المواد التي يتحقق بها التسميم في جسم الإنسان ، و هذا الإدخال في حد ذاتهيعتبر نتيجة قانونية تطلبها المشرع لذاتها ، و أما ما أورده المشرع من ذكر لعبارةتفيد التسبب في الموت فليس ذلك إلا من باب التعبير عن الأثر الذي يمكن أن يحدثهإدخال المواد السامة في جسم الإنسان ، مما يؤكد ذلك أن المشرع نفسه لم يقصر تلكالآثار في الموت فقط و إنما فتح المجال مشرعا أمام أي أثر قد يحدثه إدخال السم فيجسم الإنسان ، و لذلك فقد عبر المشرع عن هذا التوجه بعبارة : " وأيا كانت النتيجة" أي كيفما كان الأثر المترتب عن إدخال السم في جسم الإنسان سواء أتجسدفي الموت أو شل الحركة أو المرض أو غير ذلكبخلاف ما ذهب إليه بعض الفقه من تفسير لعبارة : " أيا كانت النتيجة "التي اعتبرها تعني سواء أنتج الموت أو لم ينتج [5].
ولعل اعتبار هذه القراءة للفصل 398 من القانون الجنائي ، يجعل جريمة التسميم جريمةنتيجة و ليس جريمة شكلية ، على اعتبار أن النتيجة فيها تتجسد في القصد الذي يعنيهالجاني و هو تسميم المجني عليه إما تسميما يكون الغرض منه القتل أو تسميما يكونالغرض منه شيئا آخر كما لو اتجهت إرادة الجاني إلى تسميم غيره من أجل شل حركته فقطدون وفاته ، إذ في هذه الحالة فإن الوصفالقانوني لهذا الفعل هو التسميم الناتج عنه شل الحركة من غير وفاة .
ومما يعزز الطرح المذكور أعلاه ، أن الوصف القانوني العام لجريمة التسميم يجعلهاتندرج في خانة الجنايات ، و بالتالي فإن اعتبارها كذلك يجعلها في نظر المشرع جريمةتامة ذات نتيجة و ليست جريمة شكلية . ذلكأن الجريمة الشكلية لا تتصور إلا إذا ما أتى الجاني الفعل المادي أو الأفعالالمادية التي يعتبرها المشرع مجرمة لذاتها بغض النظر عن الآثار التي قد تحدثها أولا تحدثها . لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجريمة التسميم .
فاعتبارجريمة التسميم حسب الرأي الفقهي جريمة شكلية ينفي تصور المحاولة فيها ، ذلك أن هذاالانتفاء يستند إلى مجرد اقتصار تصور المحاولة على الجرائم ذات النتيجة أو جرائمالضرر ، أما جرائم الخطر أو الجرائم الشكلية فلا تتصور فيها المحاولة لأن النتيجةفيها غير متطلبة أساسا من أجل العاقبة عليها .
وفي هذا الصدد ، إذا ما اعتبرنا جريمة التسميم كما وصفها المشرع بأنها جريمة تامة ،فإنها تبقى خاضعة من حيث أحكام المحاولة فيها لمقتضيات الفصل 114 من القانونالجنائي التي تنص على أنه : " كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأعمال لالبس فيها، تهدف مباشرة إلى ارتكابها، إذا لم يوقف تنفيذها أو لم يحصل الأثرالمتوخى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها، تعتبر كالجناية التامة ويعاقبعليها بهذه الصفة." و هو الأمر الذي نتصور معه الشروع في اقترافجريمة التسميم من غير حصول الأثر المتوخى منها أي النتيجة المرجوة منها لظروفخارجة عن إرادة الجاني .
وعلى ذلك إذا كان التكييف الفقهي لجريمة التسميم ينبني على كونها جريمة شكلية ، فإنهذا الرأي يخرج هذه الجريمة – مع التسليم باستقلاليتها عن جريمة القتل – من أحكامالفصل 114 من القانون الجنائي ، و هو ما لا يمكن أن يستقيم و مبدأ الشرعية القائمعلى ضرورة تدخل المشرع عينه من أجل تجريم فعل أو إباحته بعد التجريم . و لعل قائلافي هذا السياق يرى أن المشرع قد يكون تعامل مع جريمة التسميم تعاملا خاصا ، فإنالرد على هذا القول يمكن في كون المشرعوضع قاعدة عامة في الفصل 114 المذكور و اعتبر أن جميع الجنايات جرائم ذات نتيجة ، و لو افترض وجود جنايات عبارة عن جرائمشكلية لوضع قاعدة قانونية تشبه ما قام به في شأن المحاولة في الجنح و لقصر المحاولةبناء على ذلك في الجنايات التي ينص عليها بنص خاص .
ومما يزيد هذا الرأي صلابة هو الاضطراب الذي يسود الرأي الفقهي السائد ؛ ذلك أن الفقهالجنائي في الوقت الذي يعتبر فيه جريمة التسميم جريمة شكلية يقول بإمكانيةالمحاولة فيها ، و هو ما لا يمكن تصوره كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
فقدذهب عبد الواحد العلمي إلى القول بأنه : " لا تتصور محاولة جريمة التسميم فيصورة الجريمة المستحيلة أو الخائبة ، لكن بالرجوع إلى الفصل 114 ق ج نجد أنمحاولتها في صورة الجريمة الموقوفة متصورة ، و قد تتحقق بالفعل إذا ما أوقف الفاعلعن إتمام فعلته الإجرامية بسبب أجنبي عنه لا يد له فيه ( غير راجع لإرادته )" [6] . و هذا القول في جوهرهينبني على افتراض ضرورة تحقق نتيجة إجرامية ، إذ لا عبرة بالمحاولة ما لم تكنالجريمة ذات نتيجة .
وفي المقابل فقد اعتبر البعض الآخر أنه بالإمكان تصور الجريمة المستحيلة في حالةجرائم التسميم و لو أنه قال بكونها جريمة شكلية ، إذ جاء وفق هذا الراس أنه يمكن أن " تقوم جريمة محاولة التسميم إذاما جسد الفاعل نيته الإجرامية بأفعال مادية لم تثمر نتيجة ظروف خارجية عن إرادته ،كأن يستعمل الجاني مادة سامة دون أن يعلم أنها فقد قوتها القاتلة ، أو أن يعطيهمادة غير سامة بقصد قتله معتقدا أنها سامة " [7] .
واعتبارا لذلك فإن النتيجة التي تترتب عن جريمة التسميم هي إدخال السم في جسمالإنسان بأية وسيلة كانت سواء أكان ذلك عن طريق الاستنشاق أو الشرب أو الأكل أوالحقن أو اية طريقة كانت.
وإذا ما اعتبرنا أن جريمة التسميم جريمة ذات نتيجة و ليست جريمة شكلية، فإن ذلكلابد و أن يترتب عنه مجموعة من الآثار القانونية ، هي ما سوف نعرض له في دراسةمقبلة بحول الله تعالى .
انتهىبحمد الله تعالى
[1] ترجمةشخصية : و قد جاء النص الفرنسي على النحو التالي : "
"Le fait d'attenter àla vie d'autrui par l'emploi ou l'administration de substances de nature àentraîner la mort constitue un empoisonnement. "
[2] أحمد الخمليشي ، القانونالجنائي الخاص ، الجزء الثاني ، مكتبة المعارف الجديدة ، الرباط ، الطبعة الثانية ، 1986 ، ص99 .
[3] عبد الواحد العلمي ، شرحالقانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ،الطبعة الثانية ، 2009 ، ص 288 .
[4] مبارك السعيد بن القائد ،القانون الجنائي الخاص ، شركة بابل للطباعة و النشر و التوزيع ، الرباط ، الطبعةالأولى ، 2000 ، ص 202 .
[5] أحمد الخمليشي ، م س،صفحة 101 ، عبد الواحد العلمي ، م س ، ص 293 .
[6] عبد الواحد العلمي ، م س، ص 293 . و انظر كذلك نفس التحليل للأستاذ أحمد الخمليشي ، م س ، ص 101 و ما يليها .
[7] مبارك السعيد بن القائد ،م س ، ص 202 .
كتبها الأستاذ عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
من المعلوم أن " الفقه الجنائي " تعامل معالجرائم من جوانب مختلفة منها ما هو مرتبط بأركان الجرائم و منها ما هو مرتبطبعلاقة الجرائم بعضها ببعض و منها غير ذلك ، و في كل الأحوال فإن الفقه و هو بصدددراسة الجرائم التي نص عليها المشرع يضع نصب عينيه القواعد العامة التي تؤطر الجريمة على وجه العموم .
و في هذا الصدد ؛ فإن النظر في الجرائم على الوجه المنهجيالخالص ، يقتضي اتباع المنهجية القانونية الصرفة التي تفضي إلى إيجاد نتائج حقيقيةو متناغمة مع التوجه التشريعي الذي سار عليه المشرع . و لن يتأتى ذلك إلا إذا تمالانطلاق من النص التشريعي ذاته ، بدل الانطلاق من غيره ، إذ أن القاعدة الجنائيةتعتبر قاعدة سيادية ، أي أنها تجسد إحدى صور الممارسة السيادية التي تلجأ لهاالدول ، و تستعمل في سبيل ذلك مختلف القواعد المنهجية المستندة على المبادئ العامةالتي تقوم عليها نظرية الجريمة ، حتى إذا ما ارتأى نظر المشرع الخروج عن تلكالقواعد سن لذلك جرائم مستقلة و تم اعتبارها جرائم مستقلة بدل التعامل معها علىأساس ما تقتضيه المبادئ العامة للجريمة .
و من الجرائم التي يمكن إثارة الانتباه إلى انعدام تأسيسالراي الفقهي لها ، جريمة التسميم ، إذ أن الآراء الفقهية التي تناولت بالدرس والتحليل الجوانب القانونية لهذه الجريمة تطرح أكثر من سؤال ؛ على اعتبار أنها تلكالتحليلات تفضي إلى نتيجة غير ما أراده المشرع من إفراد جريمة التسميم بنص خاص . وهكذا فإن الاستمرار في التسليم بالرأي الفقهي بخصوص التفسير القانوني لجريمةالتسميم يجعل مجموعة من الأفعال المجرمة تخرج عن دائرة التعامل " الشرعي" معها ، إذ أن تعامل الفقه أو القضاء سيتسمان بالقطع بخرق قواعد الشرعيةالتي هي أساس القانون الجنائي نظرا لارتباطها بحقوق الأفراد .
و في هذا السياق وجب علينا طرح التساؤل التالي : إلى أيحد كان الفقه موفقا في تعامله مع الأحكام العامة لجريمة التسميم ؟
إن الجواب عن هذا التساؤل ينطلق من فرضية أن الفقه يعتبرحقيقة جريمة التسميم أنها صورة من صور القتل ، ويبني الأحكام القانونية لها علىهذا الأساس مما يشكل نوعا من الاضطراب عند صياغة مقاربة قانونية للجريمة موضوعالحديث.
و لبسط وجهة النظر المخالفة لما سار عليه التوجه الفقهي، و ما تأثر به العمل القضائي ، يتعين اتباع المنهجية التالية :
المبحث الأول : الرأي الفقهي حول الطبيعة القانونيةلجريمة التسميم
المبحث الثاني : تقديرالرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم
المبحث الأول
الرأي الفقهي حول الطبيعة القانونية لجريمةالتسميم
إن الدراسات الفقهية التي تناولت جريمة التسميم ، اعتبرتالجريمة المذكورة أنها جريمة شكلية، و قد انطلق في نظرها من الصيغة التي صاغ بهاالمشرع مقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي .
فالمشرع كما هو معلوم نص في الفصل 398 من القانونالجنائي على أنه : " من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسببالموت عاجلا أو آجلا أيا كانت الطريقة التي استعملت أو أعطيت بها تلك المواد وأياكانت النتيجة، يعد مرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام "
و انطلاقا من هذه المقتضيات اعتبر الفقه أن جريمةالتسميم جريمة شكلية تقوم على أساس مجرد مناولة الضحية للمادة السامة و لو لم تحدثتلك المناولة أية وفاة ، معتبرا أن تنصيص المشرع على عبارة " من شأنها أنتسبب الموت عاجلا أو آجلا" إشارة إلى كون جريمة التسميم جريمة لا يشترط فيهاالمشرع حدوث النتيجة الإجرامية التي هي الوفاة .
و قد قال بهذا الرأي كل الفقه ، إذ أن الموقف الفقهيبشأن جريمة التسميم يمكن اعتباره رأيا مجمعا عليه ، و هو ما يفسر التسليم بهذهالرأي من قبل الخلف الذي يسيرون على نهج السلف ، حتى أن الطبيعة القانونية لجريمةالتسميم أصبحت من المسلمات بكونها جريمة شكلية ، الشيء الذي يثير أكثر من تساؤلحول ما إذا كانت بالفعل تلك القراءة الفقهية مستندة على أساس قانوني أم لا ؟
إن تقدير العمل الرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم يجب أنيستند على رأي التشريعات التي خالفت الموقف التشريعي المغربي ؛ إذ أنه بالرجوعمثلا لموقف المشرع المصري نجده ينص في المادة 233 من قانون العقوبات المصري علىأنه: " من قتل أحداً عمداً بجواهر يتسبب عنها الموت عاجلاً أو أجلاً يعدقاتلاً بالسم أيا كانت كيفية استعمال تلك الجواهر ويعاقب بالإعدام " . و كماهو ملاحظ فإن موقف المشرع المصري سار في اتجاه اعتبار القتل يمكن أن يتحقق بمجموعةمن الصور منها أن يتم عن طريق التسميم ، و يظهر ذلك من خلال حصر النتيجة الإجراميةالتي افترضها المشرع المصري في القتل بما هو إزهاق للروح ، سواء أتم ذلك الإزهاقعاجلا أم آجلا .
فالركن المادي لجريمة " القتل عن طريق التسميم" كما افترضه المشرع المصري يمكن في إعطاء المواد السامة للضحية بغرض القتل ،و هو بذلك لا يلقي بالا للطريقة التي أعطيت بها تلك المواد . و انطلاقا من ذلك فإنالمشرع المصري عمد إلى جعل القتل عن طريق التسميم صورة من صور القتل ، إذ أنالقاعدة القانونية التي تجرم القتل في التشريع المصري جاءت عامة و مجردة لم يعتبرفيها ذات المشرع إلى النتيجة الإجرامية ألا و هو إزهاق الروح ، و هي المادة 230التي تنص على أنه : " كل من قتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار على ذلك أوالترصد يعاقب بالإعدام " ، لكن الضرورة دعت المشرع المصري إلى التدخلتشريعيا بموجب المادة 233 المذكورة أعلاه من أجل التنصيص صراحة على جريمة "القتل عن طريق التسميم " ، مما يجعلهذه الأخيرة مجرد صورة من صور القتل و ليست جريمة مستقلة عنها .
و نفس الموقف الذي سار عليه المشرع المصري ، انتهجهالمشرع الفرنسي الذي نص في الفصل 5-221 من القانون الجنائي الفرنسي على أنه :" الفعل الذي من شأنه الاعتداء على حياة الغير باستعمال مادة من شأنها إحداثالوفاة يعتبر تسميما " [1]
إذ أن الملاحظ من الموقف التشريعي الفرنسي أنه حصر بدورهالنتيجة الإجرامية في جريمة التسميم في إحداث الموت للغير . و هوما يجعل الموقفينالمصري و الفرنسي يتفقان في اعتبار جريمة التسميم جريمة ذات نتيجة إلا أنها غيرمستقلة بذاتها و لكن تعتبر صورة من صور جريمة القتل . فهل سار المشرع المغربي فينفس اتجاه المشرعين المصري و الفرنسي أم أنه خط لنفس طريقا مغايرا لذلك ؟
بالرجوع لمقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي ، نجدهينص على أنه : " من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أو آجلاأيا كانت الطريقة التي استعملت أو أعطيت بها تلك المواد وأيا كانت النتيجة، يعدمرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام " ، و هوالمقتضى الذي يفيد أن المشرع المغربي لم يتعامل مع جريمة التسميم باعتبارها صورةمن صور جريمة القتل، و إنما اعتبرها جريمة مستقلة بذاتها ، و ما يجعلنا نذهب في هذا الاتجاه هو أن المشرع لميفترض النتيجة المرجوة من التسميم منحصرة في القتل فقط و إنما جعلها تمتد إلى كلنتيجة من شأنها أن تنتج عن استعمال المواد السامة . و لعل العبارة التي أوردهاالمشرع في ذات الفصل و التي تنص على أنه : " وأيا كانت النتيجة " تعتبردليلا تشريعيا على كون المشرع لم يتعامل مع جريمة التسميم كما تعامل معها المشرعانالمصري و الفرنسي .
إنهذا الاختلاف في التوجهين التشريعيين المغربي من جهة و المصري و الفرنسي من جهةثانية ، يبدو أنه يشكل أساس التوجه الفقهي المغربي في اعتبار جريمة التسميم جريمةشكلية .
فالفقهالمغربي لما تطرق للحكم المستفاد من النص القانوني ركز على عبارة: " من شأنها أن تسببالموت عاجلا أو آجلا " و اعتبر ذلك بمثابة إهمال لأهمية النتيجة التييمكن أن تترتب عن استعمال وسائل سامة ومناولتها للغير ، و هو ما يمكن أن يجعلجريمة التسميم - وفق هذا المنطق– جريمة شكلية . على اعتبار أن الجريمة الشكلية هيالجريمة التي لا يتطلب فيها المشرع حدوث نتيجة مادية كعنصر في ركنها المادي بحيثتقع تامة بمجرد إتبان السلوك الإجرامي ؛ و أنه أن تعطى المواد التي من شأنها أنتحدث الموت عاجلا أو آجلا فإن الجريمة تكون قد تمت و اكتملت .
ولعل اعتبار الفقه الجنائي جريمة التسميممن الجرائم الشكلية لا يحتاج إلى دليل لدرجة أن الرأي مستقر على ذلك ، و هكذا فقدذهب الأستاذ الخمليشي إلى أن " جريمة التسميم في القانون المغربي جريمة شكليةلا تتحقق إلا بالقيام بالسلوك المعاقب عليه وفق النموذج المحدد في القانون ، و نموذج السلوك المحدد لجريمة التسميم هواستعمل أو إعطاء مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أو آجلا ، فإذا كانت المواد لاتتوفر على هذه الصفة لم يتحقق نموذج السلوك المعاقب عليه " [2] .
ولعل ما ذهب إليه الأستاذ الخمليشي ، هو ما سار عليه باقي الباحثين ، إذ اعتبرمجموعة منهم أن جريمة التسميم جريمة شكلية ، ومنهم الأستاذ عبد الواحد العلمي الذيذهب إلى أن " جريمة التسميم من جرائم الخطر ، و ليست من جرائم النتيجة ، بحيثلا يشترط لقيامهما أن تموت الضحية بفعل السم ، و إنما يتحقق ركنها المادي باستعمالأو إعطاء مادة سامة لشخص من الأشخاص و يكون من شأنها حسب الفصل 398 ق ج أن تتسببفي الموت عاجلا أم آجلا " [3] . و نفس الرأي هو ما أخذ بهكل من الأستاذ مبارك السعيد بن القائد الذي اعتبر أن "التسميم جريمة شكلية لا يشترط فيها حدوث النتيجةالإجرامية ، أي أنها تتم بمجرد دس السم للضحية ،و لو لم تحدث الوفاة " [4] و غيرهم من الباحثين كثرذهبوا في هذا الاتجاه .
وعموم القول في هذا السياق أن الباحثين في الفقه الجنائي استندوا على قراءة تجزيئيةللفصل 398 من القانون الجنائي إذ اعتبروا فقط الجزء الذي ينص على إحداث الموتعاجلا أو آجلا ، و قرأوه قراءة تبدو مجانبة لقصد المشرع من إيراد حكم خاص بجريمةالتسميم و يجعل الباحث يجد نفسه مضطرالتقييم هذا التوجه لما لذلك من آثار قانونية يمكن أن تترتب على مجموعة منالمستويات ، و هو ما سوف نتولى التطرق إليه في المطلب الموالي .
المبحث الثاني
تقدير الرأي الفقهي بشأن جريمة التسميم
إناعتبار جريمة التسميم جريمة شكلية ، يعني أنه بمجرد إتيان الركن المادي للجريمةالمذكورة تصبح تامة ، و بصيغة أخرى فإن جريمة التسميم حسب هذا الرأي من الفقهتعتبر مكتملة متى تم تقديم السم للضحية من غير أن يحدث ذلك السم الأثر المتوخىمنه. و مما يلاحظ على هذا التوجه أنه استند فقط على كون جريمة التسميم جريمة مآلهاالقتل أو إزهاق روح الغير ، و بالتالي فإن مسايرة هذا القول في ما ذهب إليه يجعلنانسلم بأن جريمة التسميم ليست جريمة مستقلة و إنما صورة من صور جريمة القتل مادامأن الهدف هو إحداث الوفاة عاجلا أم آجلا .
وإذا ما تفحصنا هذا الرأي ، نجده مجانبا للصواب لمجموعة من الاعتبارات، منها ما هوقانوني و منها ما هو مرتبط بالفهم الخاص للقائلين به .
فمنحيث الاعتبار القانوني نجد أن هذا الرأي يستند إلى قراءة مضطربة لمقتضيات الفصل398 من القانون الجنائي ، و هي قراءة تعتبر أن النتيجة التي تنتج عن استعمالالمواد المذكورة بالفصل المذكور هي الموت عاجلا أم آجلا ، و هو رأي يخلط بينالنتيجة و آثار النتيجة .
فالقراءةالمتأنية للفصل المذكور تقيد أن المشرع لما جعل الحكم القانوني لجريمة التسميممستقلا عن حكم جريمة القتل ، قصد أن النتيجة المتحققة من كل جريمة على حدة مختلفةعن تلك المتحققة من الأخرى . ففي الوقت الذي اعتبر فيه المشرع القصد الخاص فيجريمة القتل هو إحداث إزهاق لروج المجني عليه ، فإنه في جريمة التسميم لم يقصد ذلك، وإنما قصد الاعتداء على حياة شخص بإعطائه مواد من شأنها أن تحدث الموت عاجلا أمآجلا أو أيا كانت النتيجة .
فإذاكان الباحثون في الفقه الجنائي يستندون على كون جريمة التسميم مآلها الموت ، فإنالتساؤل يبقى مشروعا حول ما دلالة اعتبار الموت من جريمة القتل عنه في جريمةالتسميم . ففي جريمة القتل تكون النتيجة الإجرامية هي القتل مباشرة، اما في جريمةالتسميم فإن النتيجة الإجرامية ليست هي القتل أو الموت العاجل أو الآجل ، و إنماهي إدخال السم في جسم المجني عليه ، ودليل هذا الرأي هو أن المشرع لم يقصر النتيجة المتوقعة من التسميم في القتل فقط كما فعل المشرع المصري أوالفرنسي ، و إنما جعلها تتعدى ذلك إلى صور متعددة غير الموت ، وهو ما يستفاد منالعبارة التي أوردها المشرع في ذات الفصل و التي نفادها : " وأيا كانت النتيجة " . فما المقصود بذلك ؟
إنالمشرع حسب رأينا ذهب إلى أن الاعتداء على الضحية في جريمة التسميم يتحقق بمجردإدخال المواد التي يتحقق بها التسميم في جسم الإنسان ، و هذا الإدخال في حد ذاتهيعتبر نتيجة قانونية تطلبها المشرع لذاتها ، و أما ما أورده المشرع من ذكر لعبارةتفيد التسبب في الموت فليس ذلك إلا من باب التعبير عن الأثر الذي يمكن أن يحدثهإدخال المواد السامة في جسم الإنسان ، مما يؤكد ذلك أن المشرع نفسه لم يقصر تلكالآثار في الموت فقط و إنما فتح المجال مشرعا أمام أي أثر قد يحدثه إدخال السم فيجسم الإنسان ، و لذلك فقد عبر المشرع عن هذا التوجه بعبارة : " وأيا كانت النتيجة" أي كيفما كان الأثر المترتب عن إدخال السم في جسم الإنسان سواء أتجسدفي الموت أو شل الحركة أو المرض أو غير ذلكبخلاف ما ذهب إليه بعض الفقه من تفسير لعبارة : " أيا كانت النتيجة "التي اعتبرها تعني سواء أنتج الموت أو لم ينتج [5].
ولعل اعتبار هذه القراءة للفصل 398 من القانون الجنائي ، يجعل جريمة التسميم جريمةنتيجة و ليس جريمة شكلية ، على اعتبار أن النتيجة فيها تتجسد في القصد الذي يعنيهالجاني و هو تسميم المجني عليه إما تسميما يكون الغرض منه القتل أو تسميما يكونالغرض منه شيئا آخر كما لو اتجهت إرادة الجاني إلى تسميم غيره من أجل شل حركته فقطدون وفاته ، إذ في هذه الحالة فإن الوصفالقانوني لهذا الفعل هو التسميم الناتج عنه شل الحركة من غير وفاة .
ومما يعزز الطرح المذكور أعلاه ، أن الوصف القانوني العام لجريمة التسميم يجعلهاتندرج في خانة الجنايات ، و بالتالي فإن اعتبارها كذلك يجعلها في نظر المشرع جريمةتامة ذات نتيجة و ليست جريمة شكلية . ذلكأن الجريمة الشكلية لا تتصور إلا إذا ما أتى الجاني الفعل المادي أو الأفعالالمادية التي يعتبرها المشرع مجرمة لذاتها بغض النظر عن الآثار التي قد تحدثها أولا تحدثها . لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لجريمة التسميم .
فاعتبارجريمة التسميم حسب الرأي الفقهي جريمة شكلية ينفي تصور المحاولة فيها ، ذلك أن هذاالانتفاء يستند إلى مجرد اقتصار تصور المحاولة على الجرائم ذات النتيجة أو جرائمالضرر ، أما جرائم الخطر أو الجرائم الشكلية فلا تتصور فيها المحاولة لأن النتيجةفيها غير متطلبة أساسا من أجل العاقبة عليها .
وفي هذا الصدد ، إذا ما اعتبرنا جريمة التسميم كما وصفها المشرع بأنها جريمة تامة ،فإنها تبقى خاضعة من حيث أحكام المحاولة فيها لمقتضيات الفصل 114 من القانونالجنائي التي تنص على أنه : " كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأعمال لالبس فيها، تهدف مباشرة إلى ارتكابها، إذا لم يوقف تنفيذها أو لم يحصل الأثرالمتوخى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها، تعتبر كالجناية التامة ويعاقبعليها بهذه الصفة." و هو الأمر الذي نتصور معه الشروع في اقترافجريمة التسميم من غير حصول الأثر المتوخى منها أي النتيجة المرجوة منها لظروفخارجة عن إرادة الجاني .
وعلى ذلك إذا كان التكييف الفقهي لجريمة التسميم ينبني على كونها جريمة شكلية ، فإنهذا الرأي يخرج هذه الجريمة – مع التسليم باستقلاليتها عن جريمة القتل – من أحكامالفصل 114 من القانون الجنائي ، و هو ما لا يمكن أن يستقيم و مبدأ الشرعية القائمعلى ضرورة تدخل المشرع عينه من أجل تجريم فعل أو إباحته بعد التجريم . و لعل قائلافي هذا السياق يرى أن المشرع قد يكون تعامل مع جريمة التسميم تعاملا خاصا ، فإنالرد على هذا القول يمكن في كون المشرعوضع قاعدة عامة في الفصل 114 المذكور و اعتبر أن جميع الجنايات جرائم ذات نتيجة ، و لو افترض وجود جنايات عبارة عن جرائمشكلية لوضع قاعدة قانونية تشبه ما قام به في شأن المحاولة في الجنح و لقصر المحاولةبناء على ذلك في الجنايات التي ينص عليها بنص خاص .
ومما يزيد هذا الرأي صلابة هو الاضطراب الذي يسود الرأي الفقهي السائد ؛ ذلك أن الفقهالجنائي في الوقت الذي يعتبر فيه جريمة التسميم جريمة شكلية يقول بإمكانيةالمحاولة فيها ، و هو ما لا يمكن تصوره كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
فقدذهب عبد الواحد العلمي إلى القول بأنه : " لا تتصور محاولة جريمة التسميم فيصورة الجريمة المستحيلة أو الخائبة ، لكن بالرجوع إلى الفصل 114 ق ج نجد أنمحاولتها في صورة الجريمة الموقوفة متصورة ، و قد تتحقق بالفعل إذا ما أوقف الفاعلعن إتمام فعلته الإجرامية بسبب أجنبي عنه لا يد له فيه ( غير راجع لإرادته )" [6] . و هذا القول في جوهرهينبني على افتراض ضرورة تحقق نتيجة إجرامية ، إذ لا عبرة بالمحاولة ما لم تكنالجريمة ذات نتيجة .
وفي المقابل فقد اعتبر البعض الآخر أنه بالإمكان تصور الجريمة المستحيلة في حالةجرائم التسميم و لو أنه قال بكونها جريمة شكلية ، إذ جاء وفق هذا الراس أنه يمكن أن " تقوم جريمة محاولة التسميم إذاما جسد الفاعل نيته الإجرامية بأفعال مادية لم تثمر نتيجة ظروف خارجية عن إرادته ،كأن يستعمل الجاني مادة سامة دون أن يعلم أنها فقد قوتها القاتلة ، أو أن يعطيهمادة غير سامة بقصد قتله معتقدا أنها سامة " [7] .
واعتبارا لذلك فإن النتيجة التي تترتب عن جريمة التسميم هي إدخال السم في جسمالإنسان بأية وسيلة كانت سواء أكان ذلك عن طريق الاستنشاق أو الشرب أو الأكل أوالحقن أو اية طريقة كانت.
وإذا ما اعتبرنا أن جريمة التسميم جريمة ذات نتيجة و ليست جريمة شكلية، فإن ذلكلابد و أن يترتب عنه مجموعة من الآثار القانونية ، هي ما سوف نعرض له في دراسةمقبلة بحول الله تعالى .
انتهىبحمد الله تعالى
[1] ترجمةشخصية : و قد جاء النص الفرنسي على النحو التالي : "
"Le fait d'attenter àla vie d'autrui par l'emploi ou l'administration de substances de nature àentraîner la mort constitue un empoisonnement. "
[2] أحمد الخمليشي ، القانونالجنائي الخاص ، الجزء الثاني ، مكتبة المعارف الجديدة ، الرباط ، الطبعة الثانية ، 1986 ، ص99 .
[3] عبد الواحد العلمي ، شرحالقانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ،الطبعة الثانية ، 2009 ، ص 288 .
[4] مبارك السعيد بن القائد ،القانون الجنائي الخاص ، شركة بابل للطباعة و النشر و التوزيع ، الرباط ، الطبعةالأولى ، 2000 ، ص 202 .
[5] أحمد الخمليشي ، م س،صفحة 101 ، عبد الواحد العلمي ، م س ، ص 293 .
[6] عبد الواحد العلمي ، م س، ص 293 . و انظر كذلك نفس التحليل للأستاذ أحمد الخمليشي ، م س ، ص 101 و ما يليها .
[7] مبارك السعيد بن القائد ،م س ، ص 202 .
كتبها الأستاذ عبد الحكيم الحكماوي
نائب أول لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق